فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)}.
{واذكر} عطف على {أَنذَرَهُمْ} [مريم: 39] عند أبي السعود، وقيل: على اذكر السابق، ولعله الظاهر {في الكتاب} أي هذه السورة أو في القرآن {إِبْرَاهِيمَ} أي اتل على الناس قصته كقوله تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم} [الشعراء: 69] وإلا فذاكر ذلك في الكتاب هو الله تعالى كما في (الكشاف):، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام لكونه الناطق عنه تعالى ومبلغ أوامره ونواهيه وأعظم مظاهره سبحانه ومجاليه كأنه الذاكر في الكتاب ما ذكره ربه جل وعلا ومناسبة هذه الآية لما قبلها اشتمالها على تضليل من نسب الألوهية إلى الجماد اشتمال ما قبلها على ما أشار إلى تضليل من نسبها إلى الحي والفريقان وإن اشتركا في الضلال إلا أن الفريق الثاني أضل.
ويقال على القول الأول في العطف: إن المراد أنذرهم ذلك واذكر لهم قصة إبراهيم عليه السلام فإنهم ينتمون إليه صلى الله عليه وسلم فعساهم باستماع قصته يقلعون عما هم فيه من القبائح {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقًا} أي ملازم الصدق لم يذكب قط {نَّبِىٍّ} استنبأه الله تعالى وهو خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له أي كان جامعًا بين الوصفين.
ولعل هذا الترتيب للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنبوة فإن كل نبي صديق، وقيل: الصديق من صدق بقوله واعتقاده وحقق صدقه بفعله، وفي (الكشاف) الصديق من أبنية المبالغة والمراد فرط صدقه وكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أي كان مصدقًا بجميع الأنبياء وكتبهم وكان نبيًا في نفسه كقوله تعالى: {بَلْ جَاء بالحق وَصَدَّقَ المرسلين} [الصافات: 37] أو كان بليغًا في الصدق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ومصدق الله تعالى بآياته ومعجزاته حري أن يكون كذلك انتهى.
وفيه إشارة إلى أن المبالغة تحتمل أن تكون باعتبار الكم وأن تكون باعتبار الكيف ولك أن تريد الأمرين لكون المقام مقام المدح والمبالغة، وقد ألم بذلك الراغب، وأما أن التكثير باعتبار المفعول كما في قطعت الحبال فقد عده في (الكشف) من الأغلاط فتأمل، واستظهر أنه من الصدق لا من التصديق، وأيد بأنه قرىء {إِنَّهُ كَانَ صادقا} وبأنه قلما يوجد فعيل من مفعل والكثير من فاعل، وفسر بعضهم النبي هنا برفيع القدر عند الله تعالى وعند الناس.
والجملة استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره وهي على ما قيل اعتراض بين المبدل منه وهو إبراهيم والبدل وهو إذ في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ} وتعقبه صاحب الفرائد بأن الاعتراض بين البدل والمبدل منه بدون الواو بعيد عن الطبع، وفيه منع ظاهر، وفي (البحر) أن بدلية إذ من {إبراهيم} [مريم: 41] تقتضي تصرفها والأصح أنها لا تتصرف وفيه بحث، وقيل: إذ ظرف لكان وهو مبني على إن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلافية، وقيل: ظرف لِ {نبيًا} [مريم: 41] أي منبىء في وقت قوله: {لأبِيهِ} وتعقب بأنه يقتضي أن الاستنباء كان في ذلك الوقت، وقيل: ظرف لِ {صديقًا} [مريم: 41]، وفي (البحر) لا يجوز ذلك لأنه قد نعت الأعلى رأى الكوفيين، وفيه أن {نَبِيًّا} خبر كما ذكرنا لا نعت، نعم تقييد الصديقية بذلك الوقت لا يخلو عن شيء.
وقيل ظرف لصديقًا نبيًا وظاهره أنه معمول لهما معًا، وفيه أن توارد عاملين على معمول واحد غير جائز على الصحيح، والقول بأنهما جعلا بتأويل اسم واحد كتأويل حلو حامض بمز أي جامعًا لخصائص الصديقين والأنبياء عليهم السلام حين خاطب أباه لا يخفى ما فيه، والذي يقتضيه السياق ويشهد به الذوق البدلية وهو بدل اشتمال، وتعليق الذكر بالأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث قد مر سره مرارًا فتذكر.
{يَا أَبَت} أي يا أبي فإن التاء عوض من ياء الإضافة ولذلك لا يجمع بينهما إلا شذوذًا كقوله: يا أبتي أرقني القذان، والجمع في يا أبتا قيل بين عوضين وهو جائز كجمع صاحب الجبيرة بين المسح والتيمم وهما عوضان عن الغسل وقيل المجموع فيه عوض، وقيل: الألف للإشباع وأنت تعلم حال العلل النحوية.
وقرأ ابن عامر والأعرج وأبو جعفر {يا أبت} بفتح التاء، وزعم هارون أن ذلك لحن والحق خلافه وفي مصحف عبد الله {واأبت} بوا بدل ياء والنداء بها في غير الندبة قليل، وناداه عليه السلام بذلك استعطافًا له.
وأخرج أبو نعيم والديلمي عن أنس مرفوعًا «حق الوالد على ولده أن لا يسميه إلا بماسمى إبراهيم عليه السلام به أباه يا أبت ولا يسميه باسمه»، وهذا ظاهر في أنه كان أباه حقيقة، وصحح جمع أنه كان عمه وإطلاق الأب عليه مجاز {يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ} ثناءك عليك عند عبادتك له وجؤارك إليه {وَلاَ يَبْصِرُ} خضوعك وخشوعك بين يديه أولًا يسمع ولا يبصر شيئًا من المسموعات والمبصرات فيدخل في ذلك ما ذكر دخولًا أوليًا، وما موصولة وجوزوا أن تكون نكرة موصوفة {وَلاَ يُغْنِى} أي لا يقدر على أن يغني {عَنكَ شَيْئًا} من الأشياء أو شيئًا من الاغناء فهو نصب على المفعولية أو المصدرية.
ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق ليس له من هاج لئلا يركب متن المكابرة والعناف ولا ينكب بالكلية عن سبيل الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه فضلًا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والأنعام العام الخالق الرازق المحيء المميت المثيب المعاقب ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيء لو كان حيًا مميزًا سميعًا بصيرًا قادرًا على النفع والضر لكن كان ممكنًا لاستنكف ذو العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبية فما ظنك بجماد مصنوع ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر.
ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظًا من العلم الإلهي مستقلًا بالنظر السوي مصدرًا لدعوته بما مر من الاستعطاف حيث قال: {يا أبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ} ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رقيق له يكون أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال: {فاتبعنى أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} أي مستقيمًا موصلًا إلى أسنى المطالب منحيًا عن الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب.
وقوله: {جَاءنِى} ظاهر في أن هذه المحاورة كانت بعد أن نبىء عليه السلام، والذي جاءه قيل العلم بما يجب لله تعالى وما يمتنع في حقه وما يجوز على أتم وجه وأكمله.
وقيل: العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها.
وقيل: العلم بما يعم ذلك ثم ثبطه عما هو عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} فإن عبادتك الأصنام عبادة له إذ هو الذي يسولها لك ويغريك عليها. وقوله: {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيًّا} تعليل لموجب النهي وتأكيد له ببيان أنه مستعص على من شملتك رحمته وعمتك نعمته.
ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص وكل من هو عاص حقيق بأن تسترد منه النعم وينتقم منه، وللإشارة إلى هذا المعنى جيء بالرحمن. وفيه أيضًا إشارة إلى كمال شناعة عصيانه. وفي الاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليه السلام فتذكيره داع لأبيه عن الاحتراز عن موالاته وطاعته، والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. وقوله: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} تحذي من سوء عاقبة ما هو فيه من عبادة الأصنام والخوف كما قال الراغب توقع المكروه عن أمارة مظنونة أو معلومة فهو غير مقطوع فيه بما يخاف.
ومن هنا قيل: إن في اختياره مجاملة. وحمله الفراء. والطبري على العلم وليس بذاك. وتنوين {عَذَابِ} على ما اختاره السعد في المطول يحتمل التعظيم والتقليل أي عذاب هائل أو أدنى شيء منه وقال لا دلالة للفظ المس وإضافة العذاب إلى الرحمن على ترجيح الثاني كما ذكره بعضهم لقوله تعالى: {لَمَسَّكُمْ في مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 14] ولأن العقوبة من الكريم الحليم أشد. اهـ.
واختار أبو السعود أنه للتعظيم، وقال: كلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذتية بالفخامة الإضافية، وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما في قوله عز وجل: {مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم} [الانفطار: 6] انتهى، وفي (الكشف) أن الحمل على التفخيم {في عَذَابِ} كما جوزه صاحب المفتاح مما يأباه المقام أي لأنه مقام إظهار مزيد الشفقة ومراعاة الأدب وحسن المعاملة وإنما قال: {مّنَ الرحمن} لقوله أولًا {كَانَ للرحمن عَصِيًّا} [مريم: 44] وللدلالة على أنه ليس على وجه الانتقام بل ذلك أضيًا رحمة من الله تعالى على عباده وتنبيه على سبق الرحمة الغضب وإن الرحمانية لا تنافي العذاب بل الرحيمية على ما عليه الصوفية فقد قال المحقق القونوي في تفسير الفاتحة.
الرحيم كما بينا لأهل اليمين والجمال والرحمن الجامع بين اللطف والقهر لأهل القضية الأخرى والجلال إلى آخر ما قال، وأيد الحمل على التفخيم بقوله: {فَتَكُونَ للشيطان وَلِيًّا} أي قرينًا تليه ويليك في العذاب فإن الولاية للشيطان بهذا المعنى إنما تترتب على مس العذاب العظيم.
وأجيب عن كون المقام مقام إظهار مزيد الشفقة وهو يأبى ذلك بأن القسوة أحيانًا من الشفقة أيضًا كما قيل:
فقسا ليزدجروا ومن يك حازما ** فليقس أحيانًا على من يرحم

وقد تقدم هذا مع أبيات أخر بهذا المعنى، ويكفى في مراعاة الأدب والمجاملة عدم الجزم باللحوق. والمس وإن كان مشعرًا بالقلة عند الجلة لكن قالوا: إن الكثرة والعظمة باعتبار ما يلزمه ويتبعه لا بالنظر إليه في نفسه فإنه غير مقصود بالذات وإنما هو كالذوب مقدمة للمقصود فيصح وصفه بكل من الأمرين باعتبارين.
وكأني بك تختار التفخيم لأنه أنسب بالتخويف وتدعى أنه هاهنا من معدن الشفقة فتدبر وجوز أن يكون {فَتَكُونُ}.. إلخ. مترتبًا على مس العذاب القليل والولي من الموالاة وهي المتابعة والمصادقة. والمراد تفريع الثبات على حكم تلك الموالاة وبقاء آثارها من سخط الله تعالى وغضبه، ولا مانع من أن يتفرع من قليل أمر عظيم.
ثم الظاهر أن المراد بالعذاب عذاب الآخرة وتأوله بعضهم بعذاب الدنيا وأراد به الخذلان أو شيئًا آخر مما أصاب الكفرة في الدنيا من أنواع البلاء وليس بذاك، وزعم بعضهم أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا والأصل إني أخاف أن تكون وليًا للشطان أي تابعًا له في الدنيا فيمسك عذاب من الرحمن أي في العقبى وكأنه أشكل عليه أمر التفريع فاضطر لما ذكر وقد أغناك الله تعالى عن ذلك بما ذكرنا. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا}.
بليغ التصديق بما يجب لله من الوحدانية والتنزيه: {نَبِيًّا إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ} أي: مُتَلَطِّفًا في دعوته إلى التوحيد ونهيه عن عبادة الأصنام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} أي: فلا يدفع ضرًّا ولا يجلب نفعًا.
قال أبو السعود: ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج، وأقوم سبيل. واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل. لئلا يركب متن المكابرة والعناد. ولا ينكب، بالكلية، عن محجة الرشاد. حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل، من عالم وجاهل ويأبى الركون إليه، فضلًا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم. مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام، والإنعام العام. الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب. ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل، لداعية صحيحة وغرض صحيح. والشيء لو كان حيًّا مميزًا سميعًا بصيرًا، قادرًا على النفع والضر، مطيقًا بإيصال الخير والشر، لكن كان ممكنًا، لاستنكف العقل السليم عن عبادته. وإن كان أشرف الخلائق. لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة. فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر، ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر؟.
{يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ}.
أي: وحق القاصر اتباع الإنسان الكامل: {فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} أي: معتدلًا لا إفراط فيه بعبادة من لا يستحق، ولا تفريط بترك عبادة من يستحق، وكذا في باب الأخلاق والأعمال. قال المهايميّ: أي: وإن كان حق الابن اتباع الأب في العرف، لكنه باطل. لأن الحق اتباع الصواب.
قال الزمخشريّ: ثَنَّى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقًا به متلطفًا. فلم يسِمْ أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق. ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم وشيئًا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السويّ. فلا تستنكف. وهب أني وإياك في مسير، وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه.
{يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}.
ثلّث عليه السلام بتثبيطه ونهيه عما كان عليه، بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل، ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة، مستجلب لضرر عظيم، فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان. لما أنه الآمر به والمسوّل له، وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ}.. إلخ. تعليل لموجب النهي وتأكيد له، ببيان أنه مستعص على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم. ولا ريب في أن المطيع للعاصي عاص. والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير. والاقتصار على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته، لأنه ملاكها. والتعرض لعنوان الرحمانية، لإظهار كمال شناعة عصيانه. أفاده أبو السعود.
{يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ}.
لكونك عصيته وواليت عدوّه، فيقطع رحمته عنك، كما قطعها عن الشيطان: {فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} أي: مقارنًا له ومشاركًا معه في عذابه.
قال الزمخشريّ: ربَّعَ عليه السلام بتخويفه سوء العاقبة، وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال. ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرّح بأن العقاب لا حق له، وأن العذاب لاصق به، ولكنه قال: {أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ} فذكر الخوف والمس ونكّر العذاب. وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه، أكبر من العذاب. وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربعة بقوله: {يَا أَبَتِ} توسلًا إليه واستعطافًا. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)}.
أمر الله جل وعلا نبيه (محمدًا) صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة: أن يذكر في الكتاب الذي هو القرآن العظيم المنزل إليه من الله (إبراهيم) عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، ويتلو على الناس في القرآن نبأه مع قومه ودعوته لهم إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تضر. وكرر هذا المعنى المذكور في هذه الآيات أخر من كتابه جل وعلا. فهذا الذي أمر به نبيه هنا من ذكره في الكتاب إبراهيم {إِذْ قَالَ لًابِيهِ يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} الآية- أوضحه في سورة (الشعراء) في قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ} [الشعراء: 69-70]. فقوله هنا {واذكر فِي الكتاب} [مريم: 41] هو معنى قوله: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} وزاد في (الشعراء) أن هذا الذي قاله لأبيه من النهي عن عبادة الأوثان قال أيضًا لسائر قومه. وكرر تعالى الإخبار عنه بهذا النهي لأبيه وقومه عن عباد الأوثان في مواضع أخر. كقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 74]، وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 70-77]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين} [الأنبياء: 51-56] وقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26-27]، وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ أَإِفْكًا آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين} [الصافات: 83-87] وقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء أَبَدًا حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.